كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



عندئذ يشيع الخير في المجتمع المسلم إذا أبدوه. ويؤدي دوره في تربية النفوس وتزكيتها إذا أخفوه- فالخير طيب في السر طيب في العلن- وعندئذ يشيع العفو بين الناس، فلا يكون للجهر بالسوء مجال. على أن يكون عفو القادر الذي يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلة العجز؛ وعلى أن يكون تخلقًا بأخلاق الله، الذي يقدر ويعفو:
{فإن الله كان عفوًا قديرًا}.
بعد ذلك يأخذ السياق في جولة مع {الذين أوتوا الكتاب} بصفة عامة! ثم ينتقل منها إلى اليهود في شوط، وإلى النصارى في الشوط الآخر.. واليهود يجهرون بالسوء- إفكًا وبهتانًا- على مريم وعلى عيسى- ويأتي ذكر هذا الجهر في ثنايا الجولة؛ فترتبط هذه الجولة بذلك البيان الذي تتضمنة الآيتان السابقتان في السياق.
والجولة كلها طرف من المعركة التي خاضها القرآن مع أعداء الجماعة المسلمة في المدينة. والتي سلفت منها في هذه السورة وفي سورتي البقرة وآل عمران أطراف أخرى.
فنأخذ في استعراضها هنا كما وردت في السياق القرآني:
{إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. أولئك هم الكافرون حقًا. وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينا. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورًا رحيما}.
لقد كان اليهود يدعون الإيمان بأنبيائهم؛ وينكرون رسالة عيسى ورسالة محمد؛ كما كان النصارى يقفون بإيمانهم عند عيسى- فضلًا عن تأليهه- وينكرون رسالة محمد كذلك.
وكان القرآن ينكر على هؤلاء وهؤلاء؛ ويقرر التصور الإسلامي الشامل الكامل عن الإيمان بالله ورسوله؛ بدون تفريق بين الله ورسله؛ وبدون تفريق كذلك بين رسله جميعًا. وبهذا الشمول كان الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من الناس غيره، لأنه هو الذي يتفق مع وحدانية الله؛ ومقتضيات هذه الوحدانية.
إن التوحيد المطلق لله سبحانه يقتضي توحيد دينه الذي أرسل به الرسل للبشر، وتوحيد رسله الذين حملوا هذه الأمانة للناس.. وكل كفر بوحدة الرسل أو وحدة الرسالة هو كفر بوحدانية الله في الحقيقة؛ وسوء تصور لمقتضيات هذه الوحدانية.
فدين الله للبشر ومنهجه للناس، هو هو لا يتغير في أساسه كما أنه لا يتغير في مصدره.
لذلك عبر السياق هنا عمن يريدون التفرقة بين الله ورسله (بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرسل) وعمن يريدون التفرقة بين الرسل (بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا ببعضهم) عبر عن هؤلاء وهؤلاء بأنهم {الذين يكفرون بالله ورسله}، وعد تفرقتهم بين الله ورسله، وتفرقتهم بين بعض رسله وبعض، كفرًا بالله وبرسله.
إن الإيمان وحدة لا تتجزأ.. الإيمان بالله إيمان بوحدانيته سبحانه ووحدانيته تقتضي وحدة الدين الذي ارتضاه للناس لتقوم حياتهم كلها- كوحدة- على أساسه. ويقتضي وحدة الرسل الذين جاءوا بهذا الدين من عنده- لا من عند أنفسهم ولا في معزل عن إرادته ووحيه- ووحدة الموقف تجاههم جميعًا.. ولا سبيل إلى تفكيك هذه الوحدة. إلا بالكفر المطلق؛ وإن حسب أهله أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض! وكان جزاؤهم عند الله أن أعد لهم العذاب المهين.. أجمعين.
{أولئك هم الكافرون حقًا وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا}.
أما المسلمون فهم الذين يشتمل تصورهم الاعتقادي على الإيمان بالله ورسله جميعًا؛ بلا تفرقة. فكل الرسل عندهم موضع اعتقاد واحترام؛ وكل الديانات السماوية عندهم حق- ما لم يقع فيها التحريف فلا تكون عندئذ من دين الله، وإن بقي فيها جانب لم يحرف، إذ أن الدين وحدة- وهم يتصورون الأمر- كما هو في حقيقته-: إلهًا واحدًا، ارتضى للناس دينا واحدًا؛ ووضع لحياتهم منهجًا واحدًا، وأرسل رسله إلى الناس بهذا الدين الواحد وهذا المنهج الواحد. وموكب الإيمان- في حسهم- موصول، يقوده نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا- ونسبهم هم إلى هذا الموكب الموصول عريق؛ وهم حملة هذه الأمانة الكبرى، وهم ورثة هذا الخير الموصول على طول الطريق المبارك.. لا تفرقة ولا عزلة ولا انفصام.. وإليهم وحدهم انتهى ميراث الدين الحق. وليس وراء ما عندهم إلا الباطل والضلال.
وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله غيره من أحد. وهؤلاء هم المسلمون الذين يستحقون الأجر من الله على ما عملوا، ويستحقون منه المغفرة والرحمة فيما قصروا فيه: {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورًا رحيمًا}.
والإسلام إنما يتشدد هذا التشدد في توحيد العقيدة في الله ورسله. لأن هذا التوحيد هو الأساس اللائق بتصور المؤمن لإلهه سبحانه كما أنه هو الأساس اللائق بوجود منظم، غير متروك للتعدد والتصادم. ولأنه هو العقيدة اللائقة بإنسان يرى وحدة الناموس في هذا الوجود أينما امتد بصره. ولأنه هو التصور الكفيل بضم المؤمنين جميعًا في موكب واحد، يقف أمام صفوف الكفر، وفي حزب واحد يقف أمام أحزاب الشيطان.
ولكن هذا الصف الواحد ليس هو صف أصحاب الاعتقادات المحرفة- ولو كان لها أصل سماوي- إنما هو صف أصحاب الإيمان الصحيح والعقيدة التي لم يدخلها انحراف.
ومن ثم كان الإسلام هو الدين. وكان المسلمون {خير أمة أخرجت للناس} المسلمون المعتقدون عقيدة صحيحة، العاملون بهذه العقيدة. لا كل من ولد في بيت مسلم، ولا كل من لاك لسانه كلمة الإسلام!
وفي ظل هذا البيان يبدو الذين يفرقون بين الله ورسله، ويفرقون بين بعض الرسل وبعض، منقطعين عن موكب الإيمان، مفرقين للوحدة التي جمعها الله، منكرين للوحدانية التي يقوم عليها الإيمان بالله.
وبعد تركيز تلك القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي عن حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر، فيما يتعلق بالرسل والرسالات.. يأخذ في استعراض بعض مواقف اليهود في هذا المجال، وفي مجال الجهر بالسوء الذي بدئ به هذا الدرس، منددًا بموقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، وتعنتهم في طلب الآيات والأمارات منه، ويقرن بين موقفهم هذا وما كان لهم من مواقف مع نبيهم موسى عليه السلام ثم مع رسول الله من بعده عيسى عليه السلام وأمه مريم، فإذا هم جبلة واحدة في أجيالهم المتتابعة.. والسياق يوحد بين الجيل الذي يواجه الرسول صلى الله عليه وسلم، والجيل الذي واجه عيسى عليه السلام.. والجيل الذي واجه موسى كذلك من قبل، ليؤكد هذا المعنى، ويكشف عن هذه الجبلة:
{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء.. فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانًا مبينًا. ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا. فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلًا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا. وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينًا. بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيمًا. وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا}.
لقد وقف اليهود في الجزيرة من الإسلام ونبي الإسلام ذلك الموقف العدائي المتعنت المكشوف، وكادوا له ذلك الكيد المبيت المستمر العنيد، الذي وصفه القرآن تفصيلًا، واستعرضنا ألوانًا منه في سورتي البقرة وآل عمران، وفي هذه السورة كذلك من قبل- في الجزء الخامس- وهذا الذي تقصه الآيات هنا لون آخر.
إنهم يتعنتون فيطلبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بكتاب من السماء.. كتاب مخطوط ينزله عليهم من السماء مجسمًا يلمسونه بأيديهم:
{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء}:
ويتولى الله سبحانه الإجابة عن نبيه. ويقص عليه وعلى الجماعة المسلمة- في مواجهة اليهود- صفحة من تاريخهم مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم موسى عليه السلام الذي يزعمون أنهم يؤمنون به؛ ويرفضون التصديق بعيسى من بعده وبمحمد!
إن هذه الجبلة ليست جديدة عليهم؛ وليست طابع هذا الجيل وحده منهم، إنما هي جبلتهم من قديم.
إنهم هم هم من عهد موسى- نبيهم وقائدهم ومنقذهم- إنهم هم هم غلظ حس فلا يدركون إلا المحسوسات.. وهم هم تعنتًا وإعناتًا فلا يسلمون إلا تحت القهر والضغط.. وهم هم كفرًا وغدرًا فسرعان ما ينقلبون فينقضون عهدهم- لا مع الناس وحدهم ولكن مع ربهم كذلك- وهم هم قحة وافتراء؛ فلا يعنيهم أن يتثبتوا من قول؛ ولا يتورعون كذلك عن الجهر بالنكر.. وهم هم طمعًا في عرض الدنيا؛ وأكلًا لأموال الناس بالباطل؛ وإعراضًا عن أمر الله وعما عنده من ثواب.
إنها حملة تفضحهم وتكشفهم؛ وتدل قوتها وتنوع اتجاهاتها، على ما كان يقتضيه الموقف لمواجهة خبث الكيد اليهودي للإسلام ونبي الإسلام في ذلك الأوان.. وهو هو خبث الكيد الذي ما يزالون يزاولونه ضد هذا الدين وأهله حتى الآن.
{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء}..
فلا عليك من هذا التعنت؛ ولا غرابة فيه ولا عجب منه:
{فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}.
ولم تبلغ الآيات البينات التي أظهرها الله لهم على يد موسى نبيهم أن تلمس حسهم؛ وتوقظ وجدانهم وتقود قلوبهم إلى الطمأنينة والاستسلام؛ فإذا هم يطلبون رؤية الله سبحانه عيانًا! وهو مطلب طابعة التبجح الذي لا يصدر عن طبع خالطته بشاشة الإيمان؛ أو فيه استعداد للإيمان.
{فأخذتهم الصاعقة بظلمهم}.
ولكن الله سبحانه عفا عنهم؛ وتقبل فيهم دعاء موسى عليه السلام وضراعته إلى ربه؛ كما ورد في السورة الأخرى {فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي. أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء. أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة. إنا هدنا إليك...}
{ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات}.
عجل الذهب، الذي صاغه لهم السامري، مما كانوا قد أخذوه- حيلة- من نساء المصريين وهم خارجون من مصر- فإذا هم يعكفون عليه؛ ويتخذونه إلهًا في غيبة موسى عنهم في مناجاة ربه، في الموعد الذي حدده له، لينزل عليه الألواح فيها هدى ونور.
{فعفونا عن ذلك}.
ولكن اليهود هم اليهود. لا يفلح معهم إلا القهر والخوف: {وآتينا موسى سلطانًا مبينًا. ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم. وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا. وقلنا لهم لا تعدوا في السبت. وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا}.
والسلطان الذي آتاه الله موسى هو- في الغالب- الشريعة التي تضمنتها الألواح، فشريعة الله سلطان من الله؛ وكل شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان؛ وما جعل فيها من سطوة على القلوب. لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب وسيف الجلاد. فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها وتخنع؛ ولها في النفس مهابة وخشية.
ولكن اليهود الذين لا تستشعر قلوبهم الإيمان أبوا الاستسلام لما في الألواح.. وهنا جاءهم القهر المادي الذي يناسب طبيعتهم الغليظة. إذ نظروا فرأوا الصخرة معلقة فوق رؤوسهم؛ تهددهم بالوقوع عليهم؛ إذا هم لم يستسلموا ولم يتعهدوا بأخذ ما أعطاهم الله من العهد؛ وما كتب عليهم من التكاليف في الألواح.. عندئذ فقط استسلموا؛ وأخذوا العهد؛ وأعطوا الميثاق.. ميثاقًا غليظًا.. مؤكدًا وثيقًا.. يذكره- بهذه الصفة- ليتناسق المشهد مع غلظ الصخر المرفوع فوقهم، وغلظ القلب الذي في صدورهم، ثم يعطي- إلى جانب التناسق معنى الجسامة والوثاقة والمتانة على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير، وبالتخييل الحسي والتجسيم.